التراجع المنتظم لمؤشرات الأداء بالبورصة المصرية منذ عام ٢٠١١ وحتى اليوم هو حالة خاصة كاشفة تدعو الى التأمل. مث

البورصة المصرية,الثورة,سوق المال,الاقتصاد المصرى,الصفقة

عاجل
رئيس التحرير
إيمان عريف
رئيس التحرير
إيمان عريف
سوق المال قصة للتأمل

سوق المال قصة للتأمل

التراجع المنتظم لمؤشرات الأداء بالبورصة المصرية منذ عام ٢٠١١ وحتى اليوم هو حالة خاصة كاشفة تدعو الى التأمل. مثل سائر قطاعاتالاقتصاد تأثرت البورصة بأحداث الثورة وتداعياتها، وتوقفت قليلاً لحين استيعاب المشهد السياسي في البلاد.



استنفذ الجانب الأكبر من احتياطي النقد الأجنبي، وانكشف تدهور البنية الأساسية للكهرباء، وارتفعت نسبة البطالة، وتضررت قطاعات السياحة والتجارة والصناعة والزراعة على خلفية نقص الواردات واختفاء العملة الصعبة.

لكن كل تلك الأزمات بدأت في الانقشاع تدريجياً وتماثلت قطاعات الاقتصاد للتعافي مع استقرار نظام الحكم، وتوقّف الاضطرابات في الشارع، وغياب الفصيل السياسي الأكثر تأثيراً في الشارع المصري وربما العربي، والأسوأ أثراً في تاريخ مصر الحديث.

ثم بدأت مصر مرحلة انتقالية انتهت بإعداد دستور جديد، أقيم على دعائمه نظام الحكم الحالي الذي تبنى برنامجاً للإصلاح المالي والنقدي والاجتماعي طال العديد من جوانب الدولة، ولكنه ترك سوق المال ساكناً دون تغيير! البورصة المصرية لم تعد مرآة للاقتصاد أو لأي نشاط في مصر، فهي محمّلة بعدد محدود من الشركات (٢١٨ شركة) وتلك الشركات تتسم بالتحيز والتركّز القطاعي، وحتى القطاعات المهيمنة على البورصة مثل البنوك تعاني من فقر كبير في تمثيلها بالشركات المقيدة، إذ يغيب عن القيد العديد من البنوك الكبرى في مصر، والتي تمتلك الجانب الأكبر من الودائع، وتمنح القدر الأعظم من التسهيلات الائتمانية.

النتيجة الحتمية لما تقدّم هي تحسّن مؤشرات الاقتصاد الكلي بطفرات ملحوظة، مع تراجع منتظم لمؤشرات أداء البورصة وفي مقدمتها نسبة رأس المال السوقي الى الناتج المحلي الإجمالي، والتي تراجعت من نحو ١٠٤٪؜ عشية الأزمة العالمية في ٢٠٠٨ إلى ما يدور حول ١٠٪؜ اليوم! كذلك تراجعت أحجام التداول مقوّمة بالدولار الأمريكي بين هذين التاريخين، وتراجع معها معدل الدوران وعدد العمليات ... وهي جميعاً مؤشرات يرجى منها أن تعكس صلابة سوق المال، وقدرته على الاستدامة ومنافسة بدائل الاستثمار الأخرى.

انفصال البورصة عن الاقتصاد يأتي متزامناً مع أداء شديد التردّي لعمليات الطرح وزيادة رؤوس الأموال بالسوق الأولي، واعتبار برنامج الطروحات الحكومية الحلقة الأضعف في التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح المواكب لتحرير سعر الصرف نهاية 2016، بل ويأتي مصاحباً لجمود مؤسف للسوق التأميني وسوق التمويل العقاري، ويكفي الإشارة الى أن معدل الاختراق التأميني (penetration rate) في مصر لا يزيد عن ٠.١١٪؜ ويتمحسابه بنسبة أقساط التأمين سنوياً الى الناتج المحلي الإجمالي في ذات العام .. هذه النسبة تصل إلى ١٢٪ في الولايات المتحدة، و13.7% في جنوب أفريقيا و7.3% كمتوسط عالمي!؜...أما سوقالتمويل العقاري فمازالت القيادة السياسية تحاول منحه قبلة الحياة بعدد من المبادرات التي تصطدم في النهاية بجدار مؤسسي شديد الجمود..

الإدارة هي مفتاح التطوير الحقيقي، وفي الوقت الذي اعتمدت فيه الدولة خطة لتحديث شكل وعناصر الإدارة بمختلف القطاعات، فإن أسواق المال غير المصرفية بقيت الإدارة فيها على حالها منذ فجر الثورة الأولى وحتى اليوم! جمود ملحوظ وتركّز مستمر في الصلاحيات وتبديل لمواقع القيادة بين نفر محدود من الأشخاص...ودون التعرض الى شخوص القائمين على المنظومة، فإن التغيير فضلاً عن كونه سنة الحياة هو ضرورة حتمية لضبط المسار في تلك القطاعات الهامة التي تخلّفت بوضوح سافر عن ركب التطوير والإصلاح الاقتصادي الذي تنتهجه البلاد.

ومن عجب أن المؤتمرات الصحفية لهيئة الرقابة المالية تأتي محمولة على مظاهر الاحتفال بالنتائج المحققة في مختلف القطاعات، موردة بيانات منتقاة، إن صحت فهي لا تعبر عن تحسن الأداء بقدر ما تسرد أرقاماً مطلقة! مثال ذلك إجمالي القيمة التأمينية لكافة عقود التأمين في مصر والتي تقدر بتريليونات الجنيهات! ما هي دلالة تلك القيمة؟ ولماذا لا نتتبع معدل الاختراق المشار إليه أعلاه، ونرصد تقدّمه أو تخلّفه عن الأداء العالمي موضحين خطة ناجعة للتحسين، كما تفعل سائر الدول؟!.

إن احتفاء أي مسئول بأعوام من التأخر أو حتى التقدّم المتواضع يعطي إشارة واضحة الدلالة على انتهاء الصلاحية، وعلى عدم الجدوى من استمراره في الإدارة، لأنه لن يضيف جديداً أو يحرك ساكناً، فهو قانع سعيد بأدائه، ينتقي المؤشرات المبهجة ليعلنها، فإن عجز عن إيجادها، يتلو الأرقام المطلقة مفرغة الدلالة، ولا يصارح المجتمع والقيادات بحقيقة وأسباب التردّى، ناهيك عن الالتزام بإصلاحه.

لا سبيل الى طرح روشتة لعلاج سوق المال ووقف نزيف خروج وعزوف الاستثمارات المصرية والأجنبية إلا بتغيير الإدارة، والعودة إلى مسار التطوير الذي تبنته البورصة المصرية قبل العام ٢٠١١، والاستعانة بالخبرات الدولية التي كانت تشكّل لجنة استشارية عليا بالبورصة، وتنويع المنتجات وتخفيف قبضة الرقيب، وإزالة التعارض والتضارب بين المستويات الرقابية في الأسواق ... حينها فقط يمكن أن تعود البورصة إلى مضمار السباق مع بورصات الدول الناشئة لتحتل مجدداً المركز الأول في العائد على المؤشر الرئيس عوضاً عن المركز الأخير وقبل الأخير الذي بات لا ينازعها عليه أحد.

 

د/مدحت نافع

مستشار وزير التموين والرئيس السابق للشركة القابضة المعدنية